( فلسفة وافكار الامام محمد الجواد عليه السلام )
– الامام الجواد – ع – ذو العمر القصير والجود الكبير الامام الفذ الذي حمل اعباء الامامة والريادة مدة ثماني عشرة سنة رغم إنه لاقى الرفيق الاعلى وهو في الخامسة والعشرين من عمره اي انه اغتيل وهو في عمر الزهور بعد ان تولى الأمر فيما بين السابعة والثامنة من عمره ..
– الامر الذي حملني على دراسة جانب من فلسفة وافكار الامام التي لا يعرف عنها الخاصة الا الشيء اليسير وتجهلة جمهرة من المسلمين جهلاً تاما ..
– واحب ان انوه أن الامام ليس واحدا من النكرات فيتطاول الى قدس ذاته قلمي هذا ولا ذوو الحذلقة والزندقة ليزنوا علمه ويبينوا فضله بمقاييسم العاثرة وعقولهم الفارغة التي لا تفرق بين قيمة جلاميد الصخر وفلذات الدّر..
وعلى هذا فأن عدد كبير من الشيعة يحفظ اسماء ائمته الاثني عشر – ع – ولكن حقيقة اصحاب تلك الاسماء تكاد تكون مجهولة عنهم على حد كبير ومن يدعّ انه يستطيع ان يحدث في موضوع يخص الامام الجواد ويحدث عنه بمعرفة صحيحة يكون قد ابطل وردّ دعواي…
– برغم إنه لا يخفى علينا ان لكل واحد من الائمة الاثني عشر دوراً مهما في مجال الدين والدنيا اناطتهُ به السماء فلا يتعداه، لقد عاش الامام الصادق – ع – حوالي ستة وستين سنة جعله الله أمد الائمة عمرا لغاية ربانية اقتضتها حكمته فاكمل تأثيل العقيدة وبين الاحكام هو وابوه الامام الباقر – ع – الذي عاش سبعاً وخمسين سنة ليكونا بذلك مؤسسي المذهب وصاحبي أول مدرسة اسلامية بمعنى المدرسة الجامعية العليا وكما قال ابوهم أمير المؤمنين – ع – ( نحن أهل البيت لا يقاس بنا أحد فينا نزل القرآن وفينا معدن الرسالة ) ..
– ومن هذه المدرسة تخرج الامام الجواد وقد كان اقصر حجج الله في أرضه عمراً اذ عاش خمسا وعشرين سنه فقط ،ليكون بذلك صبياً عجيبا وغلاماً زكياً يطاطىء العلماء والفقهاء وارباب العلم والمعرفة رؤوسهم خضوعاً لقوله فيرى فيه أهل عصره إمامةً ذهبية يقف القلم عن وصف فلسفتة وكلامه ويعجز الفكر عن نعت حكمة وآرائه فقد صدرت عنه اقوال بليغة في وحدانية الله تعالى وله نظريات في علم الاجتماع وأدب السلوك وله اثار دينية وحكمية وفتاوى فريدة تدل على عقل حكيم يحمله الامام الشاب الذي خنقوا شبابه لانه ارق عيونهم التي لا تبصر سوى الباطل وان كان الباطل يعدو على الحق ليطمس آثاره ،لان الحق لا يضيع في زبد الباطل وفقاقيعه ولا في سورات الشر وثوراته ..
وبعد هذا القليل بحق الامام الكبير الذي كان له دوراً بارزا في ترسيخ العقائد والدفاع عنها وتصحيح معتقدات الناس مما قد يخطر في اذهانهم من تصورات خاطئة حول اصول الاعتقاد والتوحيد والصفات..
– فمن اقواله عليه السلام في التوحيد ، عن ابي هاشم الجعفري قال : سألت أبا جعفر محمد بن علي الثاني – ع – ما معنى الواحد قال المجتمعُ عليه بجميع الألسن بالوحدانية ..وفي جواب اخر قال الذي اجتماعُ الألسن عليه بالتوحيد كما قال الله عز وجل ( ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض،ليقولن الله )..بعد ذلك له شريك وصاحبة ؟! – وهذا استفهام استنكاري..
– وبالنسبة لقول المجسَّمة قال عليه السلام ( من قال بالجسم فلا تُعطوه من الزكاة ولا تصلّوا وراءه . سبحان من لا يُحد ولا يوصف ليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير ..)
– وسئل عليه السلام : يجوز أن يقال عن الله : إنه شيء ؟
فقال : نعم ، يُخرجه من الحدّين حدّ التعطيل، وحدّ التشبيه ….
بحثتُ عن بيان قول الامام في ذلك وجدت إن الشيئية التي تطلق على الممكنات لا تطلق عليه تعالى الا بشرط تجريده من حدّ التعطيل، وحدّ التشبيه الذين هما من ابرز صفات الممكن…
– في إطار البحوث العقائدية ردّ الاِمام الجواد عليه السلام على جملة وافية من الاَحاديث الموضوعة في فضائل بعض الصحابة ، التي روّج لها بنو أُمية منذ زمان معاوية بن أبي سفيان ، وصرفوا الاَموال الطائلة في سبيل وضعها ونشرها ، وذلك لبلوغ أهدافهم السياسية والمحافظة على أركان ملكهم واستمرار تسلطهم غير المشروع على الخلافة الاسلامية .
فقد روي أن ابن أكثم ناظر الاِمام أبا جعفر عليه السلام بمحضر المأمون وجماعة كبيرة من أركان دولته وخاصته ، فقال يحيى للاِمام عليه السلام : ما تقول يابن رسول الله في الخبر الذي روي أن جبرائيل نزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال : يا محمد إنّ الله يقرؤك السلام ، ويقول لك : سل أبا بكر هل هو راضٍ عني ، فإنّي راضٍ عنه ؟
فقال عليه السلام : « لست بمنكر فضل أبي بكر ، ولكن يجب على صاحب هذا الخبر أن يأخذ مثال الخبر الذي قاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع : قد كثُرت عليَّ الكذابة وستكثر ، فمن كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ، فإذا أتاكم الحديث فاعرضوه على كتاب الله وسنتي فما وافق كتاب الله وسنتي فخذوا به ، وما خالف كتاب الله وسنتي فلا تأخذوا به . وليس يوافق هذا الخبر
كتاب الله ، قال الله تعالى : ( ولقد خلقنا الانسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب اليه من حبل الوريد ) فالله عزَّ وجلَّ خفي عليه رضا أبي بكر من سخطه حتى سأل عن مكنون سرّه ؟ ! هذا مستحيل في العقول » .
ثم قال يحيى بن أكثم : وقد روي أنّ مثل أبي بكر وعمر في الاَرض كمثل جبرئيل وميكائيل في السماء .
فقال الاِمام عليه السلام : « وهذا أيضاً يجب أن يُنظر فيه؛ لاَن جبرئيل وميكائيل ملكان لله مقرّبان ، لم يعصيا الله قط ، ولم يفارقا طاعته لحظة واحدة . وهما ـ أي أبو بكر وعمر ـ قد أشركا بالله عزَّ وجلّ ، وإن أسلما بعد الشرك ، وكان أكثر أيامهما في الشرك بالله ، فمحال أن يُشبِّههما بهما . . » .
قال يحيى : وقد روي أنهما سيدا كهول أهل الجنة ، فما تقول فيه ؟
فقال عليه السلام : « وهذا محال أيضاً؛ لاَنّ أهل الجنة كلّهم يكونون شباباً ، ولا يكون فيهم كهل ، وهذا الخبر وضعه بنو أُمية لمضادة الخبر الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحسن والحسين بأنّهما سيدا شباب أهل الجنة » .
– ومن الامور العقائدية الى بيان صولاته في الفقة وجولاته في الفتاوى والتفسير والتأويل .
– قد روى قاسم الصيقل قال: كتبت إلى الرضا (عليه السلام) إنّي أعمل أغماد السيوف من جلود الحمر الميتة فتصيب ثيابي فأُصلّي فيها، فكتب إليّ اتّخذ ثوباً لصلاتك، فكتبت إلى أبي جعفر (عليه السلام) كنت كتبت إلى أبيك بكذا وكذا فصعب عليّ ذلك، فصرت أعملها من جلود الوحشية الذكية فكتب إليّ: كلّ أعمال البرّ بالصبر يرحمك الله فإن كان ما تعمل وحشياً ذكياً فلا بأس ..
– واستدلّ الفقهاء الى فتوى الامام الفتى بشأن من أتى البهيمة فقد قال عليه السلام حين طلب منه البيان : ( يضرب دون الحدّ ،ويغرم ثمنها ،ويحرم ظهرها ونتاجها ، وتخرج إلى البرية حتى تأتي منيتها ،سبعٌ اكلها ، ذئبٌ اكلها ) ..
– وكان جوابه عليه السلام بشأن المطلقة التي أبانها حكم عمّه وطيرها من زوجها في الهواء ، فقد قال عليه السلام للسائل تقرأ القرآن ؟
قال : نعم
قال : اقرأ قوله تعالى ( واقيموا الشهادة لله ) .يا هذا لا طلاق الا بخمس شهادة عدلين ، في طهر ، من غير جماع ، بإرادة وعزم ..يا هذا هل ترى في القرآن عدد نجوم السماء ؟!
قال : لا…
– واستند الفقهاء على جواز مناجاة الله في أثناء الصلاة برواية محمد بن عليّ بن الحسين عن الإمام أبي جعفر (عليه السلام) قال: لا بأس أن يتكلّم الرجل في صلاة الفريضة بكلّ شي يناجي به ربه عز وجلّ..
– ومن الجانب الفقهي الذي ينهل من نبع القرآن فتنفجر ينابيع الحق والحكمة من قلبه ويحكم فلا معقب لحكمه لانه حكم الله تعالى من فوق سبع سماوات ..
ننتقل الى الجانب الاخلاقي فقد احاطت كلامته بجميع الجوانب التي تشد الانسان الى الخلق الكريم والادب الرفيع
فدعا الإمام الجواد (عليه السلام) إلى الاتصاف بمكارم الأخلاق ومحاسن الصفات وكان ممّا أوصى به:
عليه السلام : (من حسن خُلق الرجل كفّ أذاه، ومن كرمه برّه لمن يهواه، ومن صبره قلّة شكواه، ومن نصحه نهيه عمّا لا يرضاه، ومن رفق الرجل بأخيه ترك توبيخه بحضرة من يكره، ومن صدق صحبته إسقاطه المؤنة، ومن علامة محبّته كثرة الموافقة وقلّة المخالفة..)
ووضع (عليه السلام) بهذه الكلمات الرائعة الأسس لحسن الأخلاق ومكارم الأعمال، والدعوة إلى قيام الصداقة والصحبة على واقع من الفكر والمرونة.
– وقال (عليه السلام): (حسب المرء من كمال المروءة أن لا يلقى أحداً بما يكره.. ومن عقله إنصافه قبول الحقّ إذا بان له..).
– من آداب السلوك:
ووضع الإمام الجواد البرامج الصحيحة لحسن السلوك وآدابه بين الناس وكان من بين ما دعا له:
– وقال (عليه السلام): (ثلاث خصـال تجـلب فيهـن المودّة: الإنصاف في المعاشرة، والمواساة في الشدّة، والانطواء على قلب سليم..)
– وقال (عليه السلام): (ثلاثة من كنّ فيه لم يندم: ترك العجلة، والمشورة، والتوكّل على الله تعالى عند العزيمة، ومن نصح أخاه سرّاً فقد زانه، ومن نصحه علانية فَقَدَ شأنه..)
– وقال (عليه السلام): (عنوان صحيفة المؤمن حسن خلقه، وعنوان صحيفة السعيد حسن الثناء عليه، والشكر زينة الرواية، وخفض الجناح زينة العلم، وحسن الأدب زينة العقل، والجمال في اللسان، والكمال في العقل..)
– وقال عليه السلام ( من استفاد اخاً في الله ، فقد استفاد بيتاً في الجنة ) ..
– وقال عليه السلام : الفضائل على اربعة اجناس :
احدهما : الحكمة ،وقوامها في الفكرة .
والثاني : العفة ،وقوامها في الشهوة .
والثالث : القوة ، وقومها في الغضب .
والرابع : العدل ، وقوامة في اعتدال قوى النفس ..
– وقال له رجل : أوصني
قال عليه السلام : وتقبل ؟
قال : نعم
قال : ( توسد الصبر ، واعتنق الفقر ، وارفض الشهوات ، وخالف الهوى ،واعلم انك لن تحلو من عين الله ، فانظر كيف تكون )..
– اود ان اكمل والقي كل ما هو في متناول يدي من جواهر ثمينة من اجوبته وعظاته وكلماته القصار لكن هذا المقام لا يتسع لهكذا درر ثمينة قد احتاج لمجلدات كثيرة . لان أهل البيت بصورة عامة وهبوا حياتهم لله وتحملوا كل انواع التعسف،والجور
تشريد من الحكام الطغاة ورحلوا عن الدنيا باجسادهم احياء بسيرتهم ومبادئهم وتعاليمهم التي ورثنها من جيل الى جيل . ففي الخبر الصحيح الثابت عن ام سلمة رضوان الله عليها وعن اخرين غيرها بالعشرات إنه ( قد علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليا عليه السلام كلمة تفتح ألف كلمة ، والألف كلمة تفتح كل كلمة ألف كلمة ) وان هذا العلم خاص بالائمة ..غير متيسر لسواهم إذا اطلع على رموزه مهما اتعب نفسه واعمل فكره وكدّ ذهنه لن يصل الا الى القليل القليل ..
نعتذر من الله اولاً ومن رسوله ثانياً ومن الائمة الاثني عشر ثالثاً على هذا التقصير في نشر علومهم ونسأل الله التوفيق على الخوض في هذا المجال ،واختم هذا المقال عن هذا المقام السامي للفتى الرشيد والامام السديد محمد الجواد عليه السلام ،
– عن ما جاء في تذكرة الخواص أنه عليه السلام كان على منهاج أبيه في العلم ، والتقى ،والزهد ،والجود فسلام عليه جواداً ،علماً ، زاهداً ، تقياً
وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم بيعثُ حيا…
بقلم المبلغة وسن العتبي
————–
المصادر
توحيد الصدوق
الاحتجاج للطبرسي
اصول الكافي
المحجة البيضاء
كشف الغمة
وسائل الشيعة…