أقسى المحن
في تلك الصحراء الكبرى والبادية الواسعة حيث انتشار الجهل والمعتقدات الباطلة والخرافية التي كانت تشكل حاجزا بين المخلوق والخالق وحيث المقامرة بالازلام، وعبادة الاصنام وظلم الأنام.والانحطاط الثقافي والاجتماعي والاخلاقي . بزغ فجر جديد في تاريخ البشرية،قبس سطعت انواره بطاح البيداء، نعم انه اول الانوار الالهية واعلى القمم البشرية، انسان خشعت له غرر الملائكة، تبرعم عن قلب الصحراء مع الرمال التي تتبلور على وهج الشمس. ذلك هو سيد المرسلين ورحمة العالمين محمد صلى الله عليه و آله.رسول الانسانية ومحيي السنن الربانية ..رغم انه صلى الله عليه وآله ولد في أحضان الجاهليةوتربى في محيط موبوء بالجهل والفساد وفي بيئة هي من أحط البيئات وأكثرها تأخرا وهذا ما يؤكده قول أمير المؤمنين عليه السلام :(ان الله بعث محمدا (ص) نذيرا للعالمين،وأمينا على التنزيل،وانتم معشر العرب على شر دين وفي شر دار،منيخون بين حجارة خشن وحيات صم تشربون الكدر،وتأكلون الجشب،وتسفكون دماءكم،وتقطعون أرحامكم،الاصنام فيكم منصوبة،والآثام بكم معصوبة) “1.لكنه صلوات الله عليه ومنذ نعومة أظفاره اظهر انزعاجا عظيما من الرذيلة والجهل وحبه للفضيلة الى درجة اطلق عليه في ذلك العهد السحيق (بالصادق الامين) لامانته وصدقه وحسن سيرته واخلاقه الحميدة.. واذا بهذا العظيم تنطلق رسالة السماء على لسانه، فيصوغ من شعب الجاهلية شعب المعجزات، حيث خلص العالم من قيود كل عبودية الا عبودية الواحد الاحد وحطم سلاسل الاوهام والخرافات وأخرجه من الظلمات الى النور.. ولم تمض مدة طويلة حتى ادرك رؤساء الجهل والضلالة ان محمدا صلى الله عليه وآله قد أضاء أفكار الناس وأيقضهم وصقل نفوسهم وحررهم من عبادة الاوثان وبراثن الظلم والجور. فأحسوا هؤلاء بالخطر على مصالحهم المادية ومنزلتهم الاجتماعية وعائداتهم المالية التي كانت مرتبطة بتلك الافكار والاعراف الجاهلية، وراحوا يحاربونه بشتى الطرق كالاستهزاء والسخرية واتهامه بالجنون والكذب ويضعون العوائق بطريق انتشار رسالته السماوية. الاان رسول الرحمة وبحماية عمه ابي طالب وسيف ابن عمه علي (ع) أنطلق بعزيمة كبيرة وثقة عالية لأكمال رسالته المباركة فأبطل الله تعالى كل خططهم الشيطانية ، وهكذا استمر صلوات الله عليه بأبلاغ رسالته رغم كل العوائق والشدائد حتى اصبح صوت الاسلام يدوي في كل مكان من بقاع المعمورة.
وبعد رحلة طويلة من الجهاد والعناء دامت 23سنة وبعد تبليغه ما أنزل عليه من ربه بأعلان الوصي والخليفة من بعده -من كنت مولاه فهذا علي مولاه -حيث اعلن الوحي عن أكتمال الدين وإتمام النعمة (اليوم اكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا).المائدة/3. رسول الله ينعى نفسه الشريفة ويوصي الامة بما يلزمها من طاعة وليها وخليفته من بعده علي ابن ابي طالب عليه السلام.
ها هو النور العظيم يخبو بريقه وهاهي لحظات الرحيل تقترب، لملمت الشمس خيوطها الذهبية..اعظم فاجعة وأقسى محنة على تاريخ البشرية ، حيث انقطاع الوحي وإنطفاء السراج الذي كان يضيء الكون، اسدل الظلام ستاره على الارض، كل مافي الكون ارتدى ثوب الحزن والأسى ، لا تسمع غير الانين والنياح والحنين، خفقت القلوب هلعة لرحيل أشرف خلق الله أجمعين ، عرجت روحه المقدسة، عادت الى مكانها الاول وعاد جبريل الى السماء..
(اصبنا بك يا حبيب قلوبنا، فما أعظم المصيبة بك حيث أنقطع عنا الوحي، وحيث فقدناك فأنا لله وأنا اليه راجعون ) “2
(سلام عليك ايها النبي ورحمة الله وبركاته، اللهم انا نشهد انه قد بلغ ما انزل اليه ونصح لأمته وجاهد في سبيل الله حتى أعز الله دينه وتمت كلمته، اللهم فأجعلنا ممن يتبع ما أنزل الله اليه وثبتنا بعده وأجمع بيننا وبينه) ” 3
بقلم صفية الجيزاني
…………………………..
1-نهج البلاغة، الخطبة 26
2-مفاتيح الجنان
3-الطبقات الكبرى 291/2