ليلة وداع شهر رمضان: حقيقتها، وآدابها
(أيامًا معدودات) هكذا وصفَ للهُ سبحانه وتعالى شهره الفضيل. فأيّامه ليست سوى أيّاماً معدودة لو قورنت بأيّام السنة التي هي (365 يوم)، فسنراها قليلة، وكما جاء في بعض التفاسير إنّ كلمة أيّام الواردة في الآية الكريمة جاءت منّكرة؛ وذلك للتقليل من حيث عدد تلك الأيّام، أي إنّها لا شيء بالنسبة لعدد ايّام السنة
وحيث إنّ أيّام شهر رمضان معدودة فهي كما تبدأ تنتهي.
وكما كان هناك حث كبير واهتمام أكبر من أهل البيت (عليهم السلام) على استقبال الشهر الفضيل نجد نفس الحث والاهتمام على وداعه.
والوداع ما هو إلّا عبارة عن مفارقة لضيف بعد صحبة طويلة كانت أم قصيرة، فكيف إن كان الضيفُ الذي صَحبناه هو أعظم الشهور والذي فيه أعظم الليالي لما فيه من نِعم إلهية، وفيوضاتٍ رحمانية، ولكنّ صحبته لأيّامٍ معدودة كما أشرنا لذلك.
إنّ لذلك الوداع حقيقة وآداباً لا بد أن نعرفها حتى نعمل بها، وتلك الآداب تختلف عن أي آداب لوداعٍ آخر، والناس في صحبتهم للشهر الفضيل متفاوتون، كل حسب نظرته للضيف ومكانته عنده وتعامله معه فليس الناس على سواء في ذلك وحتى نفهم حقيقة الوداع كان علينا أن نبحث في المسألة من حيثيتين:
الأولى: معرفة أهل الوداع:
فقد ورد في كتبنا المعتبرة أنّ الناس على ثلاثِ أصناف بحسب تعاملهم مع الضيف الذي حلّ عليهم ألا وهو شهر رمضان.
فالصنف الأول: هم مَن صحب ضيفه مصاحبة الضيف العزيز المنتظر له انتظار عاشق لمعشوقه، فهؤلاء يكون وداعهم وداعَ محزونٍ فاقدٍ لضيف حلّ عليهم وحضر للإنعام عليهم بنعم إلهية جليلة وعنايات ربانية، ولكنه سارع بمفارقتهم، ففارقوه باستيحاش، وببكاء الفاقدين له، ونجدهم يجددون العهد معه للقاء آخر ويلتزمون بآداب وداعه؛ لأنهم وجدوا فيه رُقيّهم.
والصنف الثاني: هم مَن صحبوه على نحوين، فمرة يرونه ضيفًا عزيزًا عليهم، وأُخرى يقاطعونه ويجدونه ثقيلًا ويحسبون الساعات والثواني لرحيله فهم في ذلك (بين صحبةٍ ومقاطعة أو قل بين علمٍ وغفلة) وهؤلاء يودعون الشهر بحسب حالهم، فإن رحل عنهم الشهر الفضيل وهم في صحبة صفاء وعلمٍ بعظمة مَن حلّ عليهم كانوا ملازمين لآداب الوداع، وإن كانوا في مقاطعة وغفلةٍ عنه فهم مقاطعون وغافلون عن آداب الوداع..
أما الصنف الأخير: فهم صنف مَن لم يكونوا على وفاق مع شهر الله تعالى، بل كانوا كارهين له لأنه حرمهم من ملذات دنيوية كثيرة فهؤلاء لم يصاحبوا الشهر نهائيًا مصاحبةً قلبية ولم يحسنوا معاملة الضيف ولا مجاورته فليسوا من أهل الوداع في شيء فكما استقبلوه كارهين رحل عنهم وهم كارهون له فلا معنى لآداب الوداع عندهم.
وبهذه الأصناف الثلاثة لأهل الوداع أمكننا الكلام بالحيثية الثانية:
الثانية: آداب الوداع
والكلام في آداب وداع شهر رمضان ما هو إلّا مرآة لأهل الوداع الذين تكلمنا عنهم، والحقيقة التي لا بد أن نقف عندها ونتمعن بها كي نستفيق من غفلتنا هي:
إننا لو تمعنّا في كل الآداب والأدعية التي جاءت بخصوص آخر ليلة من شهر رمضان فسنجد أنّ للصنف الأول الحظ الأوفر والنصيب الأكبر من آداب الوداع لكونهم أهل الوداع الحقيقيين، نعم قد يحظى الصنف الثاني بشيء من تلك الآداب إن ودعوا ضيفهم وهم في حال صفاءٍ وصحبةٍ مع ذلك الضيف، ولو أردنا أن نتأكد من ذلك فلنقرأ الأدعية الواردة عن الأئمة (عليهم السلام) في وداع شهر رمضان الذين إن بحثنا عنهم بين أصناف أهل الوداع فسنجدهم (عليهم السلام) في رأس الصنف الأول ومن أهمّ تلك الأدعية الدعاء الوارد في الصحيفة السجادية عن الإمام السجاد (عليه السلام) فصفات المودعين الواردة في الدعاء هي صفات مَن صحب الشهر صحبةَ الحبيب وجاورهُ بأحسنِ ما يكون وهي في الحقيقة صفات المعصومين (عليهم السلام) التي أرادوا أن تكون لنا منهجًا لنسير بهديهم وخطاهم فحثّونا على العمل بها، فدعاء الإمام السجاد (عليه السلام) لوداع الشهر قد عكست حقيقته سلام الله عليه، فتلك الأوراد والأغسال والأدعية التي جاءت على مدى شهرٍ كامل وعن لسان جميع المعصومين بدءًا من الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وباقي أهل البيت (عليهم السلام) حتى أتت ليلة الوداع لنقف عندها فوجدنا الحث على إحيائها حثًا دعانا للبحث عن حقيقتها التي حملت في طياتها حقائق عن أهل بيت النبوة (عليهم السلام) لنراهم من خلال أداء تلك الآداب ولكن الأغلب يعيش في غفلة.
ولذا نجد أنّ المعصوم عندما يودع الشهر يبدأ بذكر النعم التي جاءت بمجيء الشهر وأفضل تلك النعم هي صيام الشهر فكل لحظة من لحظات هذا الشهر هي ارتقاء فهو الشهر الذي يكون فيه الإنسان ملائكياً، ولذا نجد أنّ الإمام السجاد (عليه السلام) يضج بالبكاء والدعاء في آخر الشهر، وكيف لا يضج وهو العالم بحقيقة تلك النعم.
فما أن أتت اللحظة التي سيرحل فيها أعز ضيف نرى أهل الوداع فد تهيأوا لوداعه بأفضل ما يكون فبدأت آداب الوداع بالغسل؛ والغسل في حقيقته تطهير للقلوب بالكامل حتى تشملهم المغفرة الإلهية.
ثم التوجه إلى زيارة أوسع السفن وأسرعها ألا وهي زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) سواء كانت زيارة عن قرب أو بُعد وقراءة الأدعية الخاصة بالوداع.
ثم الصلاة الخاصة بآخر ليلة.
حتى يصِلوا إلى آخر مرحلة من مراحل الوداع وهو العفو عمن ظلمهم وأساء إليهم وتجديد العهد بصيامه وقيامه وقد ورد تجديد العهد في حديث عن النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله) عندما قال:
(اللهم لا تجعله آخر العهد من صيامنا إيّاه فإن جعلته فاجعلني مرحومًا ولا تجعلني محرومًا. ثم قال (صلى الله عليه وآله): فإنه من قال ذلك ظفر بإحدى الحسنين إما ببلوغ شهر رمضان من قابل وإما بغفران الله ورحمته)
وأهل الوداع مع كل تلك الآداب هم مستوحشون وتلهج ألسنتهم بكثرة التسليم عليه فيقولون: السلام عليك يا شهر الله الأكبر ويا عيد أوليائه.
وهو سلام توديع لشهر أنفرد من دون سائر الشهور بذكره في كتاب الله تعالى لما فيه من نعم وفيوضات حتى صار نفس الصائم تسبيحاً ونومه عبادة، فكل سكنات الصائم هي طاعة، فالليلة الأخيرة هي ليلة الجوائز، ولذا نجد المعصوم في سلامه على الشهر يصفه بأنه عيد أوليائه وذلك لأن هدية الضيافة وجزاءها تكون في آخر الشهر.
فعلينا أن نبحث عن أنفسنا في أصناف أهل الوداع فما زالت الفرصة سانحة لنكون من أهل الوداع فنقوم بآخر الشهر بآداب الوداع التي حثّ أهل البيت (عليهم السلام) عليها عسى أن يعطينا الله ثواب الصائمين والعابدين في هذا الشهر ونحظى بمنحٍ إلهية وجوائز ربانية.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والتسليم على نبينا محمد وآله الطيبين .
بقلم /وجدان الشوهاني